– فهمي هويدي
كلما فتح الواحد منا فاه مبديا ملاحظة على حرية التعبير في مصر الآن نهرنا آخرون قائلين:
احمدوا ربكم على ما تتمتعون به من حرية لا تقارن بما خبرتموه في الماضي. أم أنكم نسيتم ذلك الزمن الذي فرضت فيه الرقابة وقصفت الأقلام وأممت الصحف؟
مثل هذه المقولات شاعت على ألسنة كثيرين، حتى أصبح البعض يرددونها في كل مناسبة، بحسبانها مرافعة دامغة تحسم الحوار لصالح الوضع القائم، وتحبذ الرضا والحفاوة بما صرنا نرفل فيه من حرية ارتفعت في ظلها الأصوات المحبوسة، وانطلقت الألسنة المعقودة، وانفكت عقد الصامتين والخائفين، على حد قولهم.
الطريف في الأمر أن هذا الكلام حين يقال الآن فإنه يصدر في لحظة يكذب فيها الواقع جوهر المرافعة المذكورة، حيث يكفي أن يطالع المرء صحف الصباح لكي يقرأ بعينيه أخبار الضيق المتزايد بحرية التعبير، متمثلة في إجراءات القمع والتقييد والإنذارات التي باتت تنهال كل يوم على رءوس الإعلاميين والملاحقات التي طالت المراسلين الأجانب.
رغم ذلك، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن سقف حرية التعبير ارتفع بصورة نسبية في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة بوجه أخص، لكن ثمة أمورا يجب أن توضع في الاعتبار لكي نرى الصورة في إطارها الصحيح وحجمها الحقيقي، منها ما يلي:
- إننا لا نستطيع أن نفصل حرية التعبير عن الحريات العامة في البلد. ومن الناحية النظرية والمنطقية فإنه لا يطمأن إلى حرية التعبير في بلد يعيش في ظل قانون الطوارئ، وتصادر فيه الحريات العامة ممثلة في حرية تشكيل الأحزاب والنقابات، وإصدار الصحف، ويتعذر فيه إجراء انتخابات نزيهة تحقق المشاركة والمساءلة وتداول السلطة.
- حين يفسح المجال لقدر من حرية التعبير في ظل هذه الظروف، فإنه يصبح في الحقيقة نوعا من ممارسة حرية التنفيس والصياح، ترفع فيه السلطة شعار
"قولوا ما تشاءون ونحن نفعل ما نريد".
وهو موقف يتسق مع فكرة الالتفاف على الديمقراطية التي شاعت في بعض دول العالم الثالث، وبمقتضاها تقام هياكل الديمقراطية من أحزاب كرتونية وانتخابات مزورة ومجالس نيابية معوقة ومنظمات وهمية لحقوق الإنسان، في حين لا يسفر ذلك عن أى مشاركة ولا يحقق أي أمل في تداول السلطة.
وعندما ترتب الأوضاع بحيث تقام هياكل الديمقراطية وتعطل وظيفتها، فإن التسامح مع هامش لحرية الصياح يصبح مفهوما، سواء لإتاحة الفرصة للتنفيس أو لاستكمال متطلبات الديكور الديمقراطي.
- في كل الأحوال ينبغي ألا ينسى أن الباب ليس مفتوحا على مصراعيه كما قد يظن، لأن إجراءات التأديب والقمع ما زالت تتخذ بحق كل من "يأخذ راحته" في التعبير.
ومعروفة قائمة الصحفيين المصريين الذين تعرضوا للضرب من مجهولين، وأقرانهم الذين فصلوا من وظائفهم أو منعوا من الكتابة في الصحف القومية، أو الذين قدموا للمحاكمة، حيث لا يزال سيف الحبس مصلتا على رقاب الجميع.
- إن السلطة في مصر فتحت الباب للتنفيس حقا، لكن لا فضل لها في رفع سقف التعبير وتوسيع هامشه، لأن ذلك مما ينبغي أن يحسب لنفر من الصحفيين والكتاب الشجعان الذين دفعوا بذلك الهامش بعيدا، متمسكين بممارسة حقهم في التعبير عن آرائهم، وأكثرهم دفع ثمن شجاعته تلك، رغم أن السلطة ظلت تخوفهم بنصوص الحبس وإجراءات الملاحقة والقمع.
- إن التطور المثير الحاصل في وسائل الاتصال خفف من قبضة السلطة على قنوات التعبير، بعدما أصبحت المدونات والرسائل البريدية والإنترنت مجالا مورست فيها حرية التعبير على نحو ظل من الصعب السيطرة عليه، وكان لذلك العامل دوره الذي اضطر السلطة لأن تسلم بالواقع الجديد بعدما أفلتت الأمور من أيديها.
على صعيد آخر، لست أرى محلا لمقارنة مصر بدول أخرى أتعس حظا منها، لأن المقارنة الصحيحة ينبغي أن تكون بما يجب أن تستحقه مصر، وليس بمن هم أصغر منها مقاما أو أتعس حالا.
كما أنه ليس من الإنصاف أن نقارن وضع مصر الآن بما كانت عليه قبل أربعين أو خمسين عاما، لأن التحديات الداخلية والخرائط الدولية مختلفة تماما عما أصبحت عليه الآن.
ولا مفر من الاعتراف بأنه في العهد «الشمولي» الذي يغمزون فيه ويحيلون إليه في المقارنة، لم تدع مصر أنها دولة ديمقراطية، لكنها كانت بلدا كبيرا له عزته وكبرياؤه،
أما الآن فإنها ما زالت دولة غير ديمقراطية وإن ادعت غير ذلك، لكنها صغرت كثيرا وتأثرت حظوظها من العزة والكبرياء منذ "اعتدلت" ودخلت في تحالف مع الولايات المتحدة وفي صلح مع "إسرائيل".
حين لم يكن يسمع صوت المجتمع في السابق كانت مصر دولة كبيرة ورائدة ولها مشروعها وصوتها الذي تردد قويا في فضاء المنطقة،
ولاحقا حين ارتفع صوت المجتمع كانت مصر قد صارت دولة أخرى أكثر تواضعا وأقل شأنا.
وحين تصبح تلك حالها، فليس بوسع أحد أن يكابر ويعيِّر الغيورين بالذي فات، ورحم الله من قال:
"إذا بليتم فاستتروا"
كلما فتح الواحد منا فاه مبديا ملاحظة على حرية التعبير في مصر الآن نهرنا آخرون قائلين:
احمدوا ربكم على ما تتمتعون به من حرية لا تقارن بما خبرتموه في الماضي. أم أنكم نسيتم ذلك الزمن الذي فرضت فيه الرقابة وقصفت الأقلام وأممت الصحف؟
مثل هذه المقولات شاعت على ألسنة كثيرين، حتى أصبح البعض يرددونها في كل مناسبة، بحسبانها مرافعة دامغة تحسم الحوار لصالح الوضع القائم، وتحبذ الرضا والحفاوة بما صرنا نرفل فيه من حرية ارتفعت في ظلها الأصوات المحبوسة، وانطلقت الألسنة المعقودة، وانفكت عقد الصامتين والخائفين، على حد قولهم.
الطريف في الأمر أن هذا الكلام حين يقال الآن فإنه يصدر في لحظة يكذب فيها الواقع جوهر المرافعة المذكورة، حيث يكفي أن يطالع المرء صحف الصباح لكي يقرأ بعينيه أخبار الضيق المتزايد بحرية التعبير، متمثلة في إجراءات القمع والتقييد والإنذارات التي باتت تنهال كل يوم على رءوس الإعلاميين والملاحقات التي طالت المراسلين الأجانب.
رغم ذلك، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن سقف حرية التعبير ارتفع بصورة نسبية في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة بوجه أخص، لكن ثمة أمورا يجب أن توضع في الاعتبار لكي نرى الصورة في إطارها الصحيح وحجمها الحقيقي، منها ما يلي:
- إننا لا نستطيع أن نفصل حرية التعبير عن الحريات العامة في البلد. ومن الناحية النظرية والمنطقية فإنه لا يطمأن إلى حرية التعبير في بلد يعيش في ظل قانون الطوارئ، وتصادر فيه الحريات العامة ممثلة في حرية تشكيل الأحزاب والنقابات، وإصدار الصحف، ويتعذر فيه إجراء انتخابات نزيهة تحقق المشاركة والمساءلة وتداول السلطة.
- حين يفسح المجال لقدر من حرية التعبير في ظل هذه الظروف، فإنه يصبح في الحقيقة نوعا من ممارسة حرية التنفيس والصياح، ترفع فيه السلطة شعار
"قولوا ما تشاءون ونحن نفعل ما نريد".
وهو موقف يتسق مع فكرة الالتفاف على الديمقراطية التي شاعت في بعض دول العالم الثالث، وبمقتضاها تقام هياكل الديمقراطية من أحزاب كرتونية وانتخابات مزورة ومجالس نيابية معوقة ومنظمات وهمية لحقوق الإنسان، في حين لا يسفر ذلك عن أى مشاركة ولا يحقق أي أمل في تداول السلطة.
وعندما ترتب الأوضاع بحيث تقام هياكل الديمقراطية وتعطل وظيفتها، فإن التسامح مع هامش لحرية الصياح يصبح مفهوما، سواء لإتاحة الفرصة للتنفيس أو لاستكمال متطلبات الديكور الديمقراطي.
- في كل الأحوال ينبغي ألا ينسى أن الباب ليس مفتوحا على مصراعيه كما قد يظن، لأن إجراءات التأديب والقمع ما زالت تتخذ بحق كل من "يأخذ راحته" في التعبير.
ومعروفة قائمة الصحفيين المصريين الذين تعرضوا للضرب من مجهولين، وأقرانهم الذين فصلوا من وظائفهم أو منعوا من الكتابة في الصحف القومية، أو الذين قدموا للمحاكمة، حيث لا يزال سيف الحبس مصلتا على رقاب الجميع.
- إن السلطة في مصر فتحت الباب للتنفيس حقا، لكن لا فضل لها في رفع سقف التعبير وتوسيع هامشه، لأن ذلك مما ينبغي أن يحسب لنفر من الصحفيين والكتاب الشجعان الذين دفعوا بذلك الهامش بعيدا، متمسكين بممارسة حقهم في التعبير عن آرائهم، وأكثرهم دفع ثمن شجاعته تلك، رغم أن السلطة ظلت تخوفهم بنصوص الحبس وإجراءات الملاحقة والقمع.
- إن التطور المثير الحاصل في وسائل الاتصال خفف من قبضة السلطة على قنوات التعبير، بعدما أصبحت المدونات والرسائل البريدية والإنترنت مجالا مورست فيها حرية التعبير على نحو ظل من الصعب السيطرة عليه، وكان لذلك العامل دوره الذي اضطر السلطة لأن تسلم بالواقع الجديد بعدما أفلتت الأمور من أيديها.
على صعيد آخر، لست أرى محلا لمقارنة مصر بدول أخرى أتعس حظا منها، لأن المقارنة الصحيحة ينبغي أن تكون بما يجب أن تستحقه مصر، وليس بمن هم أصغر منها مقاما أو أتعس حالا.
كما أنه ليس من الإنصاف أن نقارن وضع مصر الآن بما كانت عليه قبل أربعين أو خمسين عاما، لأن التحديات الداخلية والخرائط الدولية مختلفة تماما عما أصبحت عليه الآن.
ولا مفر من الاعتراف بأنه في العهد «الشمولي» الذي يغمزون فيه ويحيلون إليه في المقارنة، لم تدع مصر أنها دولة ديمقراطية، لكنها كانت بلدا كبيرا له عزته وكبرياؤه،
أما الآن فإنها ما زالت دولة غير ديمقراطية وإن ادعت غير ذلك، لكنها صغرت كثيرا وتأثرت حظوظها من العزة والكبرياء منذ "اعتدلت" ودخلت في تحالف مع الولايات المتحدة وفي صلح مع "إسرائيل".
حين لم يكن يسمع صوت المجتمع في السابق كانت مصر دولة كبيرة ورائدة ولها مشروعها وصوتها الذي تردد قويا في فضاء المنطقة،
ولاحقا حين ارتفع صوت المجتمع كانت مصر قد صارت دولة أخرى أكثر تواضعا وأقل شأنا.
وحين تصبح تلك حالها، فليس بوسع أحد أن يكابر ويعيِّر الغيورين بالذي فات، ورحم الله من قال:
"إذا بليتم فاستتروا"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق