الإنتفاضة الفلسطينية الثالثة Third Palestinian Intifada

الاثنين، 20 ديسمبر 2010

د. عبد الرحمن البر يكتب: تحية وتقدير لموقف الإمام الأكبر



[
د. عبد الرحمن البر

- الإمام الأكبر ومواقف مشرفة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه واهتدى بهداه، وبعد؛

فلا يملك المرء حيال المواقف المشرفة المتتالية لفضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر إلا الدعاء للرجل بالحفظ والتثبيت والتأييد، والنظر لمستقبل الأزهر المشرق بمزيدٍ من التفاؤل والأمل الكبير في استعادة دوره الريادي الإسلامي والعالمي في ظلِّ قيادة واعية مخلصة لدينها وتاريخها وأمتها.

ما أكثر المواقف التي تستحق الإشادة والتنويه، ومنها رفض الإمام الأكبر رفضًا كاملاً للتطبيع مع العدو أو مقابلة زعماء الصهيونية، ومنها رفضه أن يوظف مقامه الرفيع لمناصرة الحزب الوطني أو غيره في الانتخابات الماضية، ومنها لقاؤه الكريم مع شيخ الأمة فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين؛ ليجسد الرجلان الصورة المثلى لما يجب أن يكون عليه علماء الإسلام، بغضِّ النظر عن مواقعهم الرسمية، ولا يقل أهمية عن ذلك ما يقوم به الإمام الأكبر من عمليات إصلاح في الأزهر العتيق، ومن مطاردة الفساد والمفسدين؛ نسأل الله أن يعينه في مساعيه، وأن يحقق به عز الأزهر والإسلام بإذن الله.

- موقف قوي مشرف للإمام الأكبر من المقررات السلبية لسينودس الفاتيكان:
ثم كان الموقف المشرف لفضيلة الإمام الأكبر الذي ظهر من خلال رسالته التي بعث بها إلى مؤتمر الإخاء الإسلامي المسيحي الذي عُقد في دمشق يوم الأربعاء الماضي 15/12 بالتعاون مع بطريركية الروم الكاثوليك لعرض ومناقشة مقررات سينودس الفاتيكان بخصوص مسيحيي الشرق الأوسط، الذي انعقد في روما في العاشر من أكتوبر الماضي ولمدة أسبوع، وقد أوضح فضيلة الإمام الأكبر بغير مواربة ولا تمييع رأي الأزهر ورأي علماء المسلمين فيما صدر من مقررات عن هذا المجمع، محددًا في إنصاف بالغ أهم الإيجابيات في تلك المقررات، وأبرز ما جاء فيها من سلبيات، بأسلوب علمي راق، وقد ذكر خلاصة ذلك أستاذنا فهمي هويدي في مقالته بجريدة (الشروق) يوم السبت 18/12 تحت عنوان: (نقلة في خطاب الأزهر).

وعلى حدِّ علمي فقد كان فضيلة الإمام مهتمًا غاية الاهتمام بهذا الموضوع منذ أعلن عنه إبان زيارة بابا الفاتيكان لقبرص في يونية الماضي وإعلانه عن عقد المؤتمر، وكلَّف فضيلة الإمام بعض كبار العلماء المتخصصين بدراسة الورقة التي نشرها الفاتيكان وقدمها للدراسة في ذلك المؤتمر.

وكنتُ قد كتبتُ (قراءة هادئة في وثيقة بابا الفاتيكان) ونشرتُها على موقعي الشخصي (alabaserah.com) وعلى موقع (إخوان أون لاين) وعلى غيرهما من المواقع، وأرسلتُ بها إلى كثيرٍ من رموز الأمة وعلمائها من المفكرين وأساتذة جامعة الأزهر، ومما أسعدني أن قراءتي الهادئة لا تخرج في خلاصتها عما قاله فضيلة الإمام الأكبر حفظه الله.

ومما ذكرتُه في مقدمة تلك القراءة مما يتفق تمامًا مع ما قاله فضيلة الإمام الأكبر: "أن موقف الكنيسة الغربية الكاثوليكية من العدوان الصهيوني الهمجي على الأرض العربية في فلسطين هو موقف ضعيف متخاذل، يقر للمغتصب بما اغتصبه، ويدعو الضحية للتسليم بمنطق القوة، والرضوخ للواقع، والتعايش بسلام (هكذا) مع جيرانهم (هكذا) اليهود، وأما المذابح الجماعية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية إبَّان الاحتلال الصهيوني سنة 1948م، ثم إبَّان الاجتياح الصهيوني سنة 1967م، ثم في الاجتياح الهمجي لبيروت، ثم في العدوان الوحشي على الجنوب اللبناني ثم على غزة، فقد كان رد فعل الكنيسة الكاثوليكية الغربية ضعيفًا لا يتناسب مع بشاعة الجريمة، وبدا في بعض تلك الأحداث كما لو كان إبراء للذمة، أو ذرًّا للرماد في العيون، وكل ذلك يتنافى مع الموقف الأخلاقي المبدئي الذي ينتظر من أكبر هيئة دينية في أوربا والعالم المسيحي تحمل رسالة المحبة والسلام للعالم.

ثم كان موقف الكنيسة من المحافظين الجدد الذين أشعلوا ما سموه حربًا صليبيةً جديدةً ضد العالم الإسلامي موقفًا مترددًا، وكان ينتظر من أكبر الكنائس أن تعلن بصوت عالٍ موقفًا قويًّا وصارمًا، وأن تقود حملة أخلاقية قوية في الاتجاه المضاد، تبرهن بها على حقيقة الموقف المسيحي الداعي إلى السلام والمحبة بين الشعوب، وترفع الغطاء الديني المسيحي عن الغزو الأمريكي غير الأخلاقي لأفغانستان والعراق".

كل هذا وغيره كان مما دعا العماد ميشيل عون أن يتمنى على الفاتيكان "تعميم ثقافة الانفتاح لا التخويف، والاقتراب لا الابتعاد".

- خلاصة الإيجابيات في مقررات السينودس:
أجملت الإيجابيات في الورقة التي أعدها الفاتيكان للمناقشة في ثماني عشرة نقطة، أهمها:
1- الدعوة إلى أن يكون الدين دومًا عاملاً للسلام والوفاق، ودعوة المؤمنين بالله الأحد ليكونوا صفًّا واحدًا في الدعوة إلى التسامح والتعاون المشترك، وتنمية القيم الروحية والإنسانية، ومواجهة الاستقطاب في الأمة، والوقوف أمام محاولات إشعال الفتن الطائفية، وخلق العداوات بين أبناء الوطن الواحد، وتأكيد خطورة الحداثة التي جاءت بالإلحاد وإنكار القيم الأخلاقية، والدعوة إلى التعاون لإحياء قيم الأسرة والفضيلة، ومواجهة قيم الرذيلة والإباحية والشذوذ؛ لصد الهجمة الشرسة على الأخلاق والقيم الفاضلة.

وهذا ما يدعو إليه الإسلام ويحض عليه القرآن ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 64).

2- دعوة للمسيحيين في بلاد الشرق الأوسط؛ لأن يكونوا مواطنين مندمجين مع إخوانهم من الغالبية المسلمة في هذه البلاد، لا أن يكونوا مرتبطين بأي أجندات أخرى لا تخدم بلادهم التي ولدوا ويعيشون فيها، ولا متخندقين في أفكار سامة وخاطئة تمنعهم من التواصل الإيجابي مع مواطنيهم المسلمين، أو تعمق في نفوس الأجيال التالية شعور الاغتراب في أوطانهم.

وهذا ما حرص المسلمون في بلادنا على تعميقه عبر القرون في سماحة واضحة.

3- الدعوة إلى تَفَهُّم ما جاء في الإسلام مما هو مشترك مع المسيحية، ومن ثَمَّ الحوار القائم على احترام كل طرف للآخر، لا على تبني أي طرف لعقائد الطرف الآخر.
وهذا ما دعا إليه الإسلام في مجادلة أهل الكتاب، فقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)﴾ (العنكبوت).

4- الإشارة إلى كون الاحتلال الصهيوني هو أهم الأسباب للتوتر في المنطقة، والتنديد بكون القوى العظمى (المسيحية في أغلبها) أنانية لا تحترم الحقوق ولا القانون الدولي، وتمارس الضغوط على الضحية العربية، وتدلل الجاني الصهيوني، وتحافظ على أسباب التوتر، وتُهمل الحقوق الإنسانية لشعوب المنطقة، والتنديد كذلك بمناصرة بعض الأصوليين المسيحيين وتبريرهم للظلم الصهيوني؛ ما يضع المسيحيين في الشرق الأوسط في موقفٍ حرج، والتأكيد على أن السلام والعدل والاستقرار هم شروط ضرورية لتنمية الحقوق الإنسانية في الشرق الأوسط.

- خلاصة السلبيات والمغالطات في مقررات السينودس:
أما النقاط السلبية والمغالطات التي احتوت عليها وثيقة الفاتيكان فأجملتها في اثنتي عشرة نقطة، وأهمها:
1- الادعاء بتعرض المسيحيين في الشرق للاضطهاد أو القهر لكونهم مسيحيين، والواقع ينطق بغير ذلك، وبأن ما قد ينزل ببعضهم من بعض الأنظمة المستبدة فإن مواطنيهم المسلمين يصيبهم مثله بل أكثر منه، ولا ذنب للشعوب ولا للإسلام كدين في هذه المظالم، ومعلوم باليقين أن الإسلام والمسلمين قد حافظوا على الوجود المسيحي في هذه المنطقة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، شهد المنصفون من المسيحيين بأنها كانت أعدل الفترات التي عاشوها كمسيحيين.

وقد ادَّعت الورقة غياب الاعتراف بالحرية الدينية وحقوق الإنسان في البلاد الإسلامية، وهذه مغالطة كبرى، فإن الإسلام يعترف بهذه الحرية الدينية وبحقوق الإنسان على أكمل ما يكون، وهذا سِرُّ بقاء النصرانية واليهودية في البلاد الإسلامية كل تلك القرون، التي لم يحصل في يوم من الأيام لها تطهير أو إبادة على النحو الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية مع المسلمين في الأندلس وفي الحروب الصليبية في الشام وفلسطين، أو الذي مارسته الكنيسة الأرثوذكسية الصربية مع البوشناق المسلمين في البوسنة والهرسك.

2- الدعوة إلى تعميق ما أسمته مفهوم (العلمانية الإيجابية) لمواجهة ما تسميه (الصيغة الثيوقراطية) بزعم أن ذلك يسمح بمزيد من المساواة بين المواطنين مختلفي الديانات.

وفضلاً عما في هذه الدعوة من تناقض مع الدعوة لاحترام الدين، فإن فيها خلطًا بين المفهوم المسيحي الغربي وبين المفهوم الإسلامي لصلة الدين بالسياسة، فالصيغة الثيوقراطية هي إفراز الكنيسة الكاثوليكية تاريخيًّا، أما الإسلام فلا يعرف هذه الصيغة على الإطلاق، وليس في الإسلام من يحكم باسم الله أو وكيلاً عن الله، بل الحكومة في الإسلام حكومة مدنية وليست حكومة دينية، والحاكم في الإسلام شخص عادي اختارته الأمة بمحض إرادتها، ولها حقُّ عزله متى شاءت، ولها حقُّ مراجعته في كل أعماله ومحاسبته على كل أخطائه، باعتبار أنه متعاقد معها على رعاية مصالحها وفق القواعد التي تؤمن بها؛ لا وفق هواه، ولا يعرف الإسلام تلك العصمة التي ادعاها بابوات الكنيسة لأنفسهم، ومن ثَمَّ فلا معنى للقول بتخفيف الصيغة الثيوقراطية؛ لأن هذه الصيغة ليست موجودةً أصلاً.

3- من أخطر ما في الورقة من المغالطات تلك التي تتعلق بالحالة المصرية؛ حيث تدَّعي الورقة أن حياة المسيحيين في مصر معرَّضةٌ لصعوبات خطرة، وترد ذلك إلى تصاعد ما تسميه بالإسلام السياسي، وتغلغل ما تسميه الأسلمة في المجتمع المصري.

ومن العجب أن يُطْلَب من المسلمين أن يتخلوا عن أسلمة حياتهم في الوقت الذي تدعو فيه الورقة الأقلية الكاثوليكية إلى التبشير بالمسيحية في هذه البلاد!.

بل تعتبر الورقة أن الردة عن الإسلام إلى النصرانية تعد اهتداءً، بينما الدخول في الإسلام يعد اقتناصًا مغرضًا يتعرض له المسيحيون تحت إغراءات أو ضغوط وعنف يمارسها المسلمون عليهم.

وهذا تصوير خاطئ وكذب فاضح لن تكون نتائجه إلا إيقاد الفتن وإشعال الحروب الدينية في المنطقة، وهو لعب بالنار، نرجو ألا تتورط فيه الكنيسة التي ترفع شعار المحبة والسلام.

4- الخلط العجيب بين الإسلام وبين العنف واعتبار كل متدين متطرفًا، والدعوة إلى الاشتراك في مواجهة ما أسمته الورقة (التيارات المتطرفة) بدعوى تهديدها للجميع.

وهذا خطأ فادح، وهو كفيل بإشعال نار فتنة كبرى في المنطقة وفي العالم، فالأفكار المتطرفة لا تمثل تيارًا عامًّا في الصحوة الإسلامية، وإنما هي نتوءات متفرقة هنا وهناك، يلفظها الجسد الإسلامي، وتتكفل بمواجهتها ومحاصرتها المؤسسات الإسلامية الرسمية وغير الرسمية، وعلى رأسها الأزهر الشريف والإخوان المسلمون، ومحاولة إدخال غير المسلمين على هذا الخط جديرة بإفشال كل هذه الجهود المخلصة، وإعطاء مصداقية لهذه الأفكار بين الشباب، وربما أدَّت إلى تحول جمهور كبير من الأمة من رفضها إلى التعاطف معها ومساندتها.

5- موقف الكنيسة من الصراع الصهيوني الفلسطيني هو موقف سياسي، وليس موقفًا أخلاقيًّا مبدئيًّا، إذ تُقِرُّ الكنيسة الغربية حقَّ الغاصب في تَمَلُّك ما اغتصبه، وتدعو الشعب المغصوبة أرضه للقبول بالواقع الظالم، وهو موقفٌ ينبغي على الكنيسة التي ترفع راية العدل أن تصححه، وأن يكون لها دور في مساعدة الشعب المظلوم على نيل حقوقه، ولا تساوي بين الضحية والمعتدي، كما قال فضيلة الإمام الأكبر حفظه الله.

6- وأخيرًا فإن من أخطر ما جاء في الورقة: الدعوة الصريحة للتدخل الأجنبي في بلاد الشرق الأوسط لدعم التبشير، وهي عودة واضحة إلى حالة الحروب الصليبية البغيضة، ويبدو أن الأساقفة الشرقيين الوطنيين الذين اجتمعوا في روما قد انتبهوا لخطورة هذه الدعوة فرفعوها من التوصيات التي خرج بها السينودس.

وفي الختام فإنني إذ أحيي فضيلة الإمام الأكبر وأشيد بموقفه الرائع، فإنني أعيد وضع هذه القراءة الهادئة المتأنية بين أيدي المعنيين بالشأن الديني، لعلها تكون مدخلاً مناسبًا لفهم بعض حقائق الإسلام وإدراك الواقع الحقيقي في منطقة الشرق الأوسط.

هناك تعليقان (2):